شيزوفرينيا.. عربية *
أثار ذلك المواطن العربي إعجاب جميع ركاب تلك الطائرة الأجنبية عندما سمح لامرأة مسنة تعاني بعض المشاكل الصحية في استبدال مكانه على الدرجة الأولى ليحل مقعدها بالدرجة السياحية، ليثبت مرة أخرى وداخل مطار هيثرو بلندن على رحابة صدر المواطن العربي عندما أتاح الفرصة لصبي صغير وأخيه بالتقدم عليه في مساره لينهوا إجراءتهما أمام كاونتر الدخول في المطار. لم يكتفِ هذا المسافر الخليجي الأنموذج لما يجب أن يكون عليه كل مسافر عربي خارج بلاده مما قدمه بل كان خلال رحلته التعليمية والتي استمرت زهاء اثني عشر شهرا مثالا رائعا للجيل العربي الجديد.
التزام كامل بأوقات الدوام الرسمي، والتزام بمواعيد الطعام وسط تلك العائلة الأوروبية والتي تتكون من مسن وزوجته فكان بمثابة ابنهما من محبته ومثابرته على إرضائهما.
لم يستطع هذا الشاب العربي إلا أن يؤجر سيارة، وسيارة فارهة نظراً لقدرات والده المادية الضخمة في بلاده، والذي يمده بكل ما يحتاج إليه وأكثر خلال فترة إقامته بالمملكة المتحدة.
لم تحصل سيارته طيلة ذلك العام على مخالفة قط، بل ولم يتجاوز خطوط الإشارة الضوئية، وكان دائما يلتزم الصمت أمام كل من يحاول أن يؤذيه أما بالسباب أو بالمضايقة على الطريق.
انتهت فترات دراسة الشاب العربي ليودع عائلته الغربية ويقدم لهم مبلغاً مالياً ضخماً وهدية قيمة جراء الراحة النفسية التي قضاها وإياهم خلال فترة إقامته.
عاد أدراجه من خلال طائر أجنبية إلى الأراضي السعودية، وهو في غاية الأدب والاحترام لكل من يصادفه خلال رحلة العودة، حتى أن أحد الركاب تمنى لو أنه كان ابنه.
وبمجرد أن وطأت قدمه أراضي بلاده، تجاوز الصفوف التي سبقته لتخليص إجراءات الدخول بكل صفاقة مما جعله يتشاجر مع عدد من الشبان وذويهم ليصفهم بأقذع العبارات مما اضطرهم لاستدعاء الأمن لإعادته أدراجه بعد أن قدم اعتذاره بالطبع، لينهي إجراءاته ثم يتسلم مفاتيح مركبته من سائقه المغلوب على أمره، والذي تركه أمام المطار ليعود بسيارة أجرة، فيما هو انطلق يسابق الرياح بسيارته الرياضية القوية وبيده زجاجة مشروب غازي، ولم يكد يصل إلى أول إشارة ضوئية حمراء حتى بادر بتخطيها، مما أجبر أحد السائقين بالاتجاه المقابل إلى الانعطاف بشكل مفاجئ ليصطدم بأحد أعمدة الإنارة ويقتلعه من جذوره. أكمل الشاب (الأنموذج) مسيرته الجنونية ليقذف زجاجة مشروبه الفارغة بشكل عمودي خارج المركبة مما جعلها تسقط على زجاج مركبة صغيرة أخرى وتهشم وجه قائدها المكتظ...!
وصل هذا الشاب إلى بيته سالما بعدما أذاق بقية السائقين الأمرين وأعطاهم درساً لا ينسى في فن التجاوز ومهارة المناورات وكسر الأنظمة والقوانين والتي حرم منها أشهراً في بريطانيا.
اقتحم الشاب بوابة منزله وهم بالجري تجاه الدور العلوي دون حتى أن يعير والديه اللذان انتظراه طيلة الرحلة والبالغة قرابة الـ 6 ساعات على أحر من الجمر أي اهتمام بحجه أنه مرهق ويحتاج استبدال ملابسه إضافة إلى الدش الساخن....!
تجرع الأب حزنه في صمت ودمعت عينا الأم لدى رؤيتهم ابنهم بهذه الحال والتي ظنوا أنه سيتغير في بلاد الغربة إلى الأفضل ويكتسب منهم عادات احترام الغير وأدبيات الذوق العام ومسائل الانضباط الأخرى دون جدوى.
لم يكد يمر أسبوع على رجوع الابن العاق والشاب غير المنضبط حتى تلقى الأب والأم رسالة أجنبية من السفارة البريطانية وهما في غاية الذهول، مفادها أنه تم اختيار هذا الابن كزائر خليجي نموذجي، متمنين أن يسجل تجربته في بلادهم في السجل الشرفي بالسفارة، ليكون مثلا يحتذى به لجميع أقرانه من الجيل الجديد، والأدهى من ذلك أنهم وجهوا دعوة رسمية إلى الأب ليتحدث عن كيفية تربية هذا الابن الصالح بعدما رأوا الكثير من نجابته، لنشر تلك التجربة على نطاق واسع، وليستفيد منها جميع الأباء في تنشئة أبنائهم. المثير في الأمر أن ذلك الأب (المثالي) لبى الدعوة...!!!
******
*سبق نشرها بصحيفة الجزيرة السعودية